Commentary

Op-ed

المسألة الإيرانية، إلى الساحة من جديد

An Iranian flag flutters in front of the United Nations headquarters in Vienna June 17, 2014. Six world powers and Iran began their fifth round of nuclear negotiations on Tuesday in hopes of salvaging prospects for a deal over Tehran's disputed atomic activity by a July deadline. REUTERS/Heinz-Peter Bader (AUSTRIA - Tags: POLITICS ENERGY)
Editor's note:

 يقول غالب دالاي: “من بين عناصر سياسة إيران الإقليمية، مفهومها للأمن القومي هو الفكرة الأكثر تحدّياً وابتعاداً عن المألوف. إذ لا تعمل إيران كدولة فحسب، بل كمجموعة محدّدة الهوية وشبكة أمنية أيضاً”. نُشرت المقالة بداية في Robert Bosch Academy. وهذه ترجمة للنسخة الأصلية.

لقد وَضع ما يُعرف بالمسألةُ الإيرانية أوروبا في موقف شديد التباين. ففي 13 و14 فبراير، استضافت مدينة وارسو قمّة دولية مهمّة حول إيران بهدف تشكيل تحالف دولي معادٍ لإيران. ولم يكن موقع القمّة خياراً مفاجئاً نظراً إلى التوافقات بين الحكومة البولندية المحافِظة للغاية وإدارة ترامب في الولايات المتحدة. ويبدو أنّ أحد أهمّ أهداف القمّة يقضي بإنهاء الأرثوذوكسية الأوروبية حول إيران، وتتضمّن معارضتها على انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق الطاقة النووية مع إيران وتنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة. بالمقابل، أسّست ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مؤخّراً أداةَ دعم الأنشطة التجارية (INSTEX)، وهي آلية يدعمها الاتّحاد الأوروبي وتهدف إلى تسهيل الالتزامات التجارية مع إيران من خلال مساعدة الشركات الأوروبية على تفادي العقوبات الأحادية الأمريكية المفروضة على إيران. وتعكس هذه الصور المتباينة التناقضَ الأوروبي في موضوع إيران.

وتجري الدبلوماسية الأوروبية في زمن يحمل رمزية كبيرة لإيران. فقد دخلت خطّة العمل الشاملة المشتركة حيّز التنفيذ منذ ثلاث سنوات في يناير 2016. بالإضافة إلى ذلك، تصدف هذه السنة الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية في إيران. فبعد احتجاجات شعبية، فرّ شاه إيران إلى مصر في يناير 1979 وعاد آية الله الخميني إلى إيران من فرنسا في فبراير 1979، منهياً بذلك تقليداً طويل الأمد من الحكم الملكي في إيران. وقد وضع ذلك إيرانَ على جدول الأعمال الدولي في فترتَي الحرب الباردة وبعدها، وبقيت المسألة الإيرانية منذ حينها موضوعاً مطروحاً باستمرار، ولا سيّما في الغرب.

ما هي المسألة الإيرانية؟

في ما يتعلّق بإيران، تبرز ثلاثة مفاهيم وأنواعُ تأطيرٍ مختلفةٌ.

بالنسبة إلى الأوساط المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة، تشكّل إيران في المقام الأوّل تهديداً أيديولوجياً وسياسياً، وليس تحدّياً جيوسياسياً واضحاً فحسب. وتركّز هذه النظرة على ماهيّة النظام الإيراني بدلاً ممّا تقوم به إيران. ويستند هذا الموقف على عوامل تاريخية وأيديولوجية وسياسية. فقد جرت الثورة في دولة مؤيّدة بقوّة للولايات المتحدة. علاوة على ذلك، داهم الطلاب الثوّار السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979، آخذين أكثر من 60 موظّفاً من السفارة رهائن لمدّة 444 يوماً. فساهم ذلك إلى حدّ كبير في الرؤية الدائمة التي اعتنقتها مؤسّسة الأمن والسياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران.

ويتمحور الحلّ الأنسب برأي هذا الطرف حول تغيير النظام. لكن لا يبدو أنّه تمّ التوصّل إلى توافق حيال كيفية تحقيق هذا الأمر: أمن خلال مواجهة عسكرية مباشرة أم من خلال هندسة انهيار داخلي سياسي كما حصل في الاتحاد السوفياتي في العام 1991. ويبدو أنّ النخبة السياسية الإيرانية تعتقد أنّ الولايات المتحدة تستعدّ لتطبيق النموذج السوفياتي مع إيران، لكن من دون أن تقصي هذه النخبة الخيارَ الأوّل بالكامل. ويبدو أنّ الوسائل المفضّلة هي فرضُ عقوبات قاسية على مصارف إيران وبنيتها التحتية المالية وبرنامجها الصاروخي وتشكيلُ تحالف دولي معادٍ لإيران ومساعدةُ المعارضة المحلّية داخل إيران والتحالفُ مع أخصام إيران الإقليميين. لكن كلّما ازداد سعي الولايات المتحدة إلى تغيير النظام، تمكّن النظام من استغلال هذا الأمر أكثر لحشد الشعب حول مبدأَي القومية ومعاداة الإمبريالية، وبدرجة أقلّ حول الإسلاموية. وتشكّل عدم شعبية الدول الحليفة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة، أي المملكة العربية السعودية وإسرائيل، فرصةً أخرى لإيران لكي تستغلّ هذا الخطر المهدّد من أجل تمتين الجبهة المحلّية، التي تعاني التداعي والتشقّق. وتعاني إيران وأخصامها مستويات عالية من الإدمان المتبادل، ممّا يساعد جدولَ الأعمال السياسي والأيديولوجي لكلّ منها.

وتختزل النظرةُ الثانية إيرانَ بمجرّد نقاش حول برنامجها وقنابلها النووية. ولا توازي هذه النظرة بين إيران والقنابل فحسب، بل تضع القنابل في إطار المصطلحات الأيديولوجية أيضاً. فلم تكن إيران تعمل على تطوير قنابل نووية، بل “قنابل إسلامية”. بيد أنّ هذا الفهم الاختزالي للمسألة الإيرانية يفضي إلى فهمٍ ضيّق الأفق لما يجدر اعتباره تقدّماً في ما يخصّ إيران. فقد اعتُبر أيُّ تقدّم في موضوع الملفّ النووي فوراً على أنّه تقدّم في موضوع الملفّ الإيراني. ويشكّل هذا الأمر أحد أكبر العيوب في سياسة الرئيس أوباما إزاء إيران. فقد نظرت سياسته إلى إيران من منظار برنامجها النووي. بالتالي، اعتُبرت إلى حدّ ما خطّة العمل الشاملة المشتركة، أو الاتفاق النووي، الحلّ للمسألة الإيرانية.

فخطّة العمل الشاملة المشتركة اتفاقٌ متعدّد الأطراف تمّ وضعه حول إطار عمل ثنائي أساسي بين الولايات المتحدة وإيران، بالتالي لا يستطيع الاتفاق أن يدوم من دون مشاركة أمريكية. وبالنسبة إلى إيران، ساهم الاتفاق في إلغاء أمننة الهوية الإيرانية الجيوسياسية وفي تطبيعها، بالإضافة إلى تقديمه منافع أخرى، ولا سيّما المنافع الاقتصادية. لكن على الرغم من احتمال فشل خطّة العمل الشاملة المشتركة الفعلي وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران، سبق أن تمّ التوصّل جزئياً إلى إلغاء أمننة الهوية الإيرانية الجيوسياسية وإلى تطبيع صورتها في النظام الدولي.

أمّا الموقف الثالث فينظر إلى إيران من منظار سعيها المفترض إلى الهيمنة الإقليمية. ولهذا الرأي أتباعٌ كثر في الشرق الأوسط، ولا سيّما في الخليج. ويعكس الهلال الشيعي المزعوم أو زخم إمبراطورية إيران (أو بلاد فارس) الجديدة هذا الرأي حول الشؤون الإقليمية ومكانة إيران فيها. ويتجلّى أحد مظاهر هذا الرأي في الطلب من إيران، ومن تركيا، بعدم التدخّل في الشؤون العربية. غير أنّ التاريخ السياسي في الشرق الأوسط لا يعطي صورة مشجّعة لتسلسل طبقي دائم بين الدول في المنطقة، وهذا تفكير شدّدت عليه أيضاً لويز فاوست من جامعة أكسفورد. فستصعّب الطبيعةُ المتجزّئة والمتعددة المراكز التي يتّسم بها الشرق الأوسط اليوم على أيّ قوّة شرق أوسطية الادّعاء بالهيمنة بأي طريقة مستدامة. وتشكّل التغيرات الكبيرة في أوضاع مصر والعراق وسوريا والنظرة المتغيّرة حيال مكانة تركيا في الشرق الأوسط على مدى عقود شهادةً على طبيعة “الهيمنات” المتقلقلة في المنطقة. وما يُتمّ تصويره على أنّه هيمنةٌ هو بالإجمال صورة عابرة عن فترة معينة في الشؤون الإقليمية، وليس صورة إقليمية طويلة الأمد.

المفهوم الإيراني لـ”أمن الشبكة”

لكن من بين عناصر سياسة إيران الإقليمية، مفهومها للأمن القومي هو الفكرة الأكثر تحدّياً وابتعاداً عن المألوف. إذ لا تعمل إيران كدولة فحسب، بل كمجموعة محدّدة الهوية وشبكة أمنية أيضاً. وتولّد الطريقةُ التي تعمل بها إيران كشبكة أمنية التوتّرَ الأكبر وتنشر القلق في أنحاء المنطقة. غير أنّ مفهوم إيران لـ”أمن الشبكة” يحظى بالقليل من التقدير خارج إيران، ولا سيّما في الغرب. فتتضمّن الشبكة الأمنية جهات فاعلة من الدول وغير الدول: الحكومة العراقية، ولا سيّما وحدات الحشد الشعبي الشيعية الداعمة لإيران، وهي تنظيم عراقي جامع مدعوم من الدولة ومؤلّف من عدد كبير من المجموعات الميليشياوية بأغلبية مُسلمة شيعية، وحكومة الأسد وحزب الله والحوثيين في اليمن. وتعمل هذه الشبكة كدولة ضمن الدولة، وتعمل أيضاً كشبكة عبر وطنية.

لذلك، تبرز هوّة بين فهمنا لأمن إيران ولتصوّر إيران لأمنها. ويبدو أنّ في طهران توافقاً حول أمن الشبكة. فيعتبر الطرفان البراغماتي والمحافظ على حدّ سواء أنّ محافظة إيران على الروابط، من الناحيتين المادّية والسياسية، مع سوريا وحزب الله جزءٌ لا يتجزّأ من أمن إيران القومي. غير أنّ فهم إيران لأمنها على هذا النحو هو ما يؤدّي إلى انعدام الأمن في البلدان المجاورة. فلا يمكن التوصّل إلى مفهوم واسع وتوسّعي للأمن كمفهوم الأمن الإيراني من دون خرق أمن جهات فاعلة وبلدان أخرى.

ردّاً على ذلك، يسعى تحالفٌ معارض من الدول والمجموعات إلى أن يطيح بشبكة إيران الإقليمية وبنية تحالفها ويحدّ من نفوذها. وتبرز هذه السياسة على ثلاث جبهات.

أوّلاً، تبدي بلدان الخليج، ولا سيّما المملكة العربية السعودية، ميلاً متزايداً نحو توجّه إسرائيل وإدارة ترامب القاضي بكبح نفوذ إيران الإقليمي. فمن جهة إسرائيل، قد يخرج هذا المسعى عن السيطرة في سوريا، ولا سيّما إذا انسحبت الولايات المتحدة بالكامل من البلاد. وقد أخلّت إسرائيل بقاعدة النكران التي تنتهجها عادة باعترافها مؤخّراً بأنّها استهدفت الوجود الإيراني في سوريا. ومن المرجّح جدّاً أن تستمرّ إسرائيل باستهداف المواقع الإيرانية في سوريا، فضلاً عن مواقع لحزب الله في لبنان في المستقبل. وتبعاً لطبيعة الردّ الإيراني، يبرز احتمال حقيقي بأن تشهد المنطقة انفجاراً.

ثانياً، تُعيد دول الخليج العربية النظر في مقاربتها السابقة إزاء المجتمعات الشيعية العربية مع مسعى لإبعادها عن المدار الإيراني نحو إطار عربي. فقد ركّزت هذه الدول سابقاً على هذه المجتمعات الشيعية (الطائفية) أكثر مما ركّزت على الهويات العربية (القومية). فأدّت هذه المقاربة الطائفية المقرونة بسياسات تمييزية دامت عقوداً بحقّ هذه المجتمعات إلى الدفع بهذه الأخيرة إلى أحضان إيران.

لكن يبدو أنّ النخبة العربية الخليجية (السنّية) تدرك أكثر فأكثر أنّ هذه السياسة تحقّق عكس المطلوب. فقد ولّدت دوائر تأييد طبيعية لإيران في العالم العربي، من الخليج إلى العراق واليمن وسوريا ولبنان. بالتالي، طرأ تغيير بالطبع. فبدل التركيز على الهويات الطائفية (الشيعية) لهذه المجتمعات، باتت هذه الدول تشدّد على روابطها العربية المشتركة مع هذه المجموعات، فيما تنبذ إيران كبلد فارسي متطفّل ذي طموحات بالهيمنة. ولإبراز هذا التغيير، حلّت مكان النقاشات السابقة حول الهلال الشيعي الاتهاماتُ بطموحات إيران (الفارسية) الإمبريالية في العالم العربي. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل تواصل المملكة العربية السعودية الأخير مع الجهات الفاعلة السياسية الشيعية في العراق، بمَن فيهم مقتدى الصدر، وافتتاح سفارتها في بغداد بعد مرور أكثر من ربع قرن على انقطاع العلاقات دليلاً يعكس هذا التحوّل في السياسة.

المنافسة من أجل نظام إقليمي جديد

ثالثاً، تسعى الولايات المتحدة إلى إنشاء كتلة ممأسسة معادية لإيران في المنطقة تتّخذ شكل تحالف استراتيجي في الشرق الأوسط ويُشار إليها للتبسيط باسم منظّمة حلف شمال الأطلسي العربية. وتشكّل ستُّ دول خليجية بالإضافة إلى مصر والأردن جزءاً من هذا التحالف، الذي في الواقع وُلد ميتاً نظراً إلى الاختلاف في وجهات نظر البلدان الأطراف لناحية المخاطر.

وترتبط المسألة الإيرانية أو موقف الجهات الفاعلة المختلفة من إيران ارتباطاً وثيقاً ببحث هذه الجهات عن نظام إقليمي جديد. وهذا سبب من الأسباب التي، على الرغم من المعارضة المتشاطرة لسياسة إيران الإقليمية التوسّعية ومفهومها لأمن الشبكة، تعجز هذه البلدان وتركيا عن التوافق في ما بينها حول قضية مشتركة إزاء إيران. فلتركيا سياستان تتعلّقان بإيران بدلاً من سياسة واحدة. وكلا البلدَين غير راضٍ عن سياسات الآخر في الجوار المباشر الذي يتشاطرانه، ولا سيّما في العراق وسوريا. وعلى الرغم من هذا الاختلاف الجيوسياسي وعدم الرضى، تجد تركيا في المخطّط الإقليمي الذي تضعه الكتلة المعادية لإيران خطراً أكبر عليها. ولا ترى تركيا العداء بين إيران وهذه البلدان على مستوى ثنائي، بل تراه جزءاً من منافسة مستمرّة من أجل نظام إقليمي جديد. وتعتقد تركيا أنّ فكرة الطرف المعادي لإيران حول نظام إقليمي لا تستقصي إيران فحسب، بل تركيا أيضاً. بالمقابل، يحفّز ذلك تركيا على عدم المشاركة في التحالف المعادي لإيران الذي يبرز في الشرق الأوسط.

عموماً، هذه الروايات المختلفة لما يشكّل المسألةَ الإيرانية غير متعارضة، والخطّ بين بعضٍ من هذه الروايات الحسابات رفيع. فإيران تتسّم بكلّ الخصائص الاجتماعية والسياسية التي تبديها دولة أيديولوجية، والهوّة بين الدولة والمجتمع واسعة. غير أنّه لا يجدر المبالغة بأهمّية المسألة الإيرانية أو التقليل من شأنها. لكن تبقى نقطة وضحة: ترتبط مسألة إيران بشكل مباشر ووثيق بمسألة النظام في الشرق الأوسط.

Authors